فصل: فصــل: القدر المشروع للإمام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصــل

وأما القدر المشروع للإمام‏:‏ فهي صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري عن أبي قِلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال‏:‏‏(‏إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم، ثم صلوا كما رأيتمونى أصلي‏)‏‏.‏

وأما‏[‏القيام‏]‏‏:‏ ففي صحيح مسلم عن جابر بن سَمُرَة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ ‏{‏ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ‏}‏ ونحوها، وكانت صلاته بعد إلى تخفيف‏.‏ أي‏:‏ يجعل صلاته بعد الفجر خفيفة، كما في صحيح مسلم ـ أيضًا ـ عنه قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي بَرْزَة الأسلمي قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير ـ التي تدعونها الأولى ـ لحين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ـ قال الراوي‏:‏ ونسيت ما قال في المغرب ـ وكان يستحب أن يؤخر العشاء، التي تدعونها العتمة‏.‏/ وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة‏)‏‏.‏

وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ حَزَرْنا قيام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصـر‏.‏ فحزرنا قيامـه في الركعتين الأوليين من الظهر‏:‏ قـدر ثلاثين آية، قدر ‏[‏الم السجدة‏]‏‏.‏ وحزرنا قيامـه في الأوليين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر‏.‏ وحزرنا قيامه في الآخرتين من العصر على النصف من ذلك‏.‏ رواه مسلم وأبو داود والنسائي‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين وغيرهما عن جابر بن سمرة قال‏:‏ قال عمر لسعد بن أبي وقاص‏:‏ لقد شَكَاك الناسُ في كل شيء حتى في الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخـريين‏.‏ ولا آلو ما اقتـديت بـه من صـلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ ذاك الظـن بـك يـا أبا? إسـحاق‏.‏ وفي صحيح مسلم ـ أيضًا ـ عـن أبي سـعيد ـ رضي اللّه عنـه ـ قـال‏:‏ لقـد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البَقِيع فيقضى حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها‏.‏ وفي صحيح مسلم ـ أيضًا ـ عن أبي وائل قال‏:‏ خطبنا عمار بن ياسر يومًا، فأوجز وأبلغ، فقلنا‏:‏ يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست‏.‏ فقال‏:‏ إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن طول صلاة الرجل وقِصَر /خطبته مَئنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، إن من البيان سحرًا‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات‏.‏ فكانت صلاته قصدًا‏.‏ أي‏:‏ وسطًا‏.‏

وفعله الذي سَـنَّه لأمته هـو مـن التخفيف الذي أمـر بـه الأئمـة؛ إذ التخفيف مـن الأمور الإضافية، فالمرجع في مـقداره إلى السنة‏.‏ وذلك كما خرجاه في الصحيحين عن جابر ـ رضي اللّه عنـه ـ قال‏:‏ كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع فيؤمنا ـ وقال مـرة‏:‏ ثم يرجع فيصلي بقومـه ـ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ـ وقال مرة‏:‏ العشاء؛ فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جـاء يـؤم قومه ـ فقرأ البقرة‏.‏ فاعتزل رجـل مـن القوم فصلى‏.‏ فقيـل‏:‏ نافقت‏.‏ فقال‏:‏ ما نافقت‏.‏ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ إن معاذًا يصلي معك، ثم يرجع فيؤمنا يارسـول اللّه، إنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا، وإنه جاء يؤمنا، فقرأ سـورة البقرة، فقال‏:‏ ‏(‏أفتان أنت يا معاذ‏؟‏ اقرأ بكذا، اقرأ بكذا‏)‏‏.‏ قال أبو الزبير‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏، ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏‏.‏ وفي روايـة للبخاري عـن جابر ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ أقبـل رجـل بناضحين، وقد جنح الليل، فوافــق معاذا/ يصلي ـ وذكر نحـوه، فقال في آخـره‏:‏ ‏(‏فلـولا صليت بسـبح اسم ربــك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغـشى‏.‏ فإنــه يصلي وراءك الضعـيف والكــبير وذو الحاجة‏)‏‏.‏ وفي الصحيـحين عــن أبي مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ قـــال‏:‏ جــاء رجــل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقــال‏:‏ إني لأتاخـر عـن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت رسول اللّه غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏فإن فيهم الضعيف والكبير‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة‏)‏‏.‏

وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز، كراهية أن أشق على أمه‏)‏‏.‏

وأما ‏[‏مقدار بقية الأركان مع القيام‏]‏‏:‏ فقد أخرجا في الصحيحين عن شريك بن عبد اللّه ابن أبي نمر عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ ‏(‏ماصليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏ وفي رواية عن شريك عنه‏:‏ ‏(‏وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف، مخافة أن تفتتن أمه‏)‏‏.‏ وأخرجا فيهما من حديث/عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكملها‏.‏ وفي لفظ‏:‏ يوجز الصلاة ويتم‏.‏

وأخرجا ـ أيضًا ـ عن أبي قتادة عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز من صلاتي، مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه‏)‏ رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس ـ رضي اللّه عنه قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه، وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة، أو بالسورة القصيرة‏.‏

وروى مسلم ـ أيضًا ـ عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكانت صلاته متقاربة، وصلاة أبي بكر متقاربة‏.‏ فلما كان عمر ـ رضي اللّه عنه ـ مد في صلاة الصبح‏.‏ وعن قتادة عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان من أخف الناس صلاة في تمام‏.‏

فقول أنس ـ رضي اللّه عنه ـ‏:‏ ‏(‏ما صليت وراء إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول اللّه‏)‏ يريد‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان أخف/الأئمة صلاة، وأتم الأئمة صلاة‏.‏ وهذا لاعتدال صلاته وتناسبها‏.‏ كما في اللفظ الآخر‏:‏ ‏(‏وكانت صلاته معتدلة‏)‏ وفي اللفظ الآخر‏:‏ ‏(‏وكانت صلاته متقاربة‏)‏ لتخفيف قيامها وقعودها، وتكون أتم صلاة لإطالة ركوعها وسجودها، ولو أراد أن يكون نفس الفعل الواحد ـ كالقيام ـ هو أخف وهو أتم لناقض ذلك؛ ولهذا بين التخفيف الذي كان يفعله إذا بكى الصبي‏.‏ وهو قراءة سورة قصيرة‏.‏ وبين أن عمر بن الخطاب مد في صلاة الصبح، وإنما مد في القراءة، فإن عمر ـ رضي اللّه عنه ـ كان يقرأ في الفجر بسورة يونس، وسورة هود، وسورة يوسف‏.‏

والذي يبين ذلك‏:‏ ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في تمام‏.‏ وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قال‏:‏ ‏(‏سمع اللّه لمن حمده‏)‏ قام حتى نقول‏:‏ قد أوهم، ثم يكبر ويسجد‏.‏ وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول‏:‏ قد أوهم‏.‏ كما أخرجا في الصحيحين عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي بنا‏.‏ قال ثابت‏:‏ فكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعـونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل‏:‏ قد نسي‏.‏ وللبخاري من حديث / شعبة عن ثابت قال‏:‏ قال أنس ـ رضي اللّه عنه ـ ينعت لنا صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ وكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل‏:‏ قد نسي‏.‏

فهذه أحاديث أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يوجزها ويكملها، والتي كانت أخف الصلاة وأتمها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم فيها من الركوع حتى يقول القائل‏:‏ إنه قد نسي، ويقعد بين السجدتين حتى يقول القائل‏:‏ قد نسي‏.‏ وإذا كان في هذا يفعل ذلك، فمن المعلوم باتفاق المسلمين والسنة المتواترة‏:‏ أن الركوع والسجود لا ينقصان عن هذين الاعتدالين، بل كثير من العلماء يقول‏:‏ لا يشرع ولا يجوز أن يجعل هذين الاعتدالين بقدر الركوع والسجود، بل ينقصان عن الركوع والسجود‏.‏

وفي الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم قال‏:‏ غلب على الكوفة رجل ـ قد سماه زَمَن ابن الأشعث، وسماه غُنْدَر في رواية‏:‏ مطر بن ناجية ـ فأمر أبا عبيدة بن عبد اللّه أن يصلي بالناس فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول‏:‏ ‏(‏اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بَعْدُ، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏‏.‏ قال الحكم‏:‏ فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي/ ليلى‏.‏ قال‏:‏ سمعت البراء بن عازب يقول‏:‏ كانت صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ قيامه وركوعه، وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين‏:‏ قريبًا من السواء‏.‏ قال شعبة‏:‏ فذكرته لعمرو بن مُرَّة‏.‏ فقال‏:‏ قد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فلم تكن صلاته هكذا‏.‏ ولفظ مطر عن شعبة‏:‏ كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع ـ ما خلا القيام والقعود ـ قريبًا من السواء‏.‏ وهو في الصحيح والسنن من حديث هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال‏:‏ رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فوجدت قيامه، فركوعه، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف‏:‏ قريبًا من السواء‏.‏

ويشهد لهذا ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري ـ رضي اللّه عنه ـ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع‏:‏ ‏(‏سمع الّله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد‏:‏ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أحق ما قال العبد‏)‏ هكذا هو في الحديث‏.‏ وهو/ خبر مبتدأ محذوف‏.‏ وأما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء والصوفية من قوله‏:‏ ‏(‏حق ما قال العبد‏)‏ فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والسنة، ليس له أصل في الأثر‏.‏ ومعناه ـ أيضًا ـ فاسد؛ فإن العبد يقول الحق والباطل، وأما الرب ـ سبحانه وتعالى ـ فهو يقول الحق ويهدى السبيل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 84‏]‏‏.‏

وأيضًا، فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على اللّه ـ عز وجل‏.‏

وروى مسلم ـ وغيره ـ عن عطاء، عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال‏:‏ ‏(‏اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد‏:‏ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏)‏‏.‏

وروى مسلم ـ وغيره ـ عن عبد اللّه بن أبي أوْفي قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول‏:‏ ‏(‏سمع اللّه لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد‏)‏‏.‏ وفي رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا‏:‏ أنه/ كان يقول‏:‏ ‏(‏اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كانت هذه صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التي اتفق الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ على نقلها عنه‏.‏وقد نقلها أهل الصحاح والسنن والمسانيد من هذه الوجوه وغيرها، والصلاة عمود الدين، فكيف خفي ذلك على طائفة من فقهاء العراق وغيرهم، حتى لم يجعلوا الاعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من الأفعال المقاربة للركوع والسجود، ولا استحبوا في ذلك ذكرًا أكثر من التحميد بقول‏:‏ ‏(‏ربنا لك الحمد‏)‏، حتى إن بعض المتفقهة قال‏:‏ إذا طال ذلك طولاً كثيرًا بَطَلَت صلاته‏؟‏‏!‏

قيل‏:‏ سبب ذلك وغيره‏:‏ أن الذي مضت به السنة أن الصلاة يصليها بالمسلمين الأمراء وولاة الحرب‏.‏ فوالي الجهاد كان هو أمير الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دولة بني العباس‏.‏ والخليفة هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس والجمعة، لا يعرف المسلمون غير ذلك، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون بعده من تغير الأمراء، حتى قال‏:‏ ‏(‏سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏)‏، فكان من هؤلاء من يؤخرها /عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها، كما أن بعضهم كان لا يتم التكبير، أي لا يجهر بالتكبير في انتقالات الركوع وغيره، ومنهم من لا يتم الاعتدالين‏.‏ وكان هذا يشيع في الناس فيربو في ذلك الصغير، ويهرم فيه الكبير، حتى إن كثيرًا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك‏.‏ فإذا جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك‏.‏ كما رواه البخاري في صحيحه عن قتادة عن عِكْرِمة قال‏:‏ صليت خلف شيخ بمكة، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة‏.‏ فقلت لابن عباس‏:‏ إنه لأحمق‏.‏ فقال‏:‏ ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي رواية أبي بشر عن عكرمة قال‏:‏ رأيت رجلاً عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس فقال‏:‏ أو ليس تلك صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ لا أمَّ لك‏.‏ وهذا يعني به‏:‏ أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير‏.‏ فكان الأئمة الذين يصلي خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك، وابن عباس لم يكن إمامًا حتى يعرف ذلك منه، فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره ابن عباس، وأما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره على أحد وهذا كما أن عامة الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير، بل يفعل ذلك المؤذن ونحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة‏.‏ ولا خلاف / بين أهل العلم أن هذه ليست هي السنة، بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤذن وغيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير دائمًا‏.‏ كما أن بلالاً لم يكن يجهر بذلك خلف النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا احتيج إلى ذلك، لضعف صوت الإمام، أو بعد المكان، فهذا قد احتـجوا لجوازه بأن أبا بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ كان يُسْمع الناس التكبير خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، حتى تنازع الفقهاء في جهر المأموم لغير حاجة، هل يبطل صلاته أم لا‏؟‏

ومثل ذلك ما أخرجاه في الصحيحين والسنن عن مطرف بن عبد اللّه بن الشِّخِّير قال‏:‏ صليت خلف على بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر‏.‏ فلما قضى الصلاة أخذ عمران بن حصين بيدي‏.‏ فقال‏:‏ قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال‏:‏ لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولهذا لما جهر بالتكبير سمعه عمران ومطرف، كما سمعه غيرهما‏.‏

ومثل هذا ما في الصحيحين والسنن ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ‏:‏ أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها‏:‏ يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر /حين يقوم من الجلوس من الثنتين‏:‏ يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف‏:‏ والذي نفسي بيده، إني لأقربكم شبها بصلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا‏.‏

وهذا كان يفعله أبو هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ لما كان أميرًا على المدينة، فإن معاوية كان يعاقب بينه وبين مروان بن الحكم في إمارة المدينة، فيولي هذا تارة ويولي هذا تارة‏.‏ وكان مروان يستخلف، وكان أبو هريرة يصلي بهم بما هو أشبه بصلاة صلى الله عليه وسلم من صلاة مروان وغيره من أمراء المدينة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏في المكتوبة وغيرها‏)‏ يعني‏:‏ ما كان من النوافل، مثل قيام رمضان‏.‏ كما أخرجه البخاري من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبي سلمة‏:‏ أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره، فيكبر حين يقوم، ويكبر حين يركع، ثم يقول‏:‏ سمع اللّه لمن حمده، ثم يقول‏:‏ ربنا لك الحمد‏.‏ وذكر نحوه‏.‏

وكان الناس قد اعتادوا ما يفعله غيره، فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه، كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة‏:‏/أن أبا هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع‏.‏ فقلت‏:‏ يا أبا هريرة، ماهذا التكبير‏؟‏ قال‏:‏ إنها لصلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا كله معناه‏:‏ جهر الإمام بالتكبير؛ ولهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت، وفعله في كل خفض ورفع‏.‏

يبين ذلك‏:‏ أن البخاري ذكر في ‏[‏باب التكبير عند النهوض من الركعتين‏]‏ قال‏:‏ وكان ابن الزبير يكبر في نهضته، ثم روى البخاري من حديث فُلَيْح بن سليمان عن سعيد بن الحارث‏.‏ قال‏:‏ صلى لنا أبو سعيد، فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد وحين رفع، وحين قام من الركعتين‏.‏ وقال‏:‏ هكذا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم أردفه البخاري بحديث مطرف‏:‏ قال‏:‏ صليت أنا وعمران بن حصين خلف على بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما سلم أخذ عمران بن حصين بيدي‏.‏ فقال‏:‏ لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال‏:‏ لقد ذكرني هذا صلاة محمدصلى الله عليه وسلم‏.‏

فهذا يبين أن الكلام إنما هو في الجهر بالتكبير، وأما أصل التكبير‏:‏ فلم يكن مما يخفى على أحد‏.‏ وليس هذا ـ أيضًا ـ مما يجهل،/ هل يفعله الإمام أم لا يفعله‏؟‏ فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة‏.‏ كما لا يصح نفي القراءة في صلاة المخافتة، ونفي التسبيح في الركوع والسجود، ونفي القراءة في الركعتين الآخرتين ونحو ذلك‏.‏

ولهذا اسـتدل بعض مـن كـان لا يتـم التكـبير، ولا يجهـر به، بمـا روى عـن سـعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى عن أبيه‏:‏ أنه صلى مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكان لا يتم التكبير‏.‏ رواه أبو داود والبخاري في التاريخ الكبير‏.‏ وقد حكى أبو داود الطيالسي أنه قال‏:‏ هذا عندنا باطل‏.‏ وهذا إن كان محفوظًا فلعل ابن أبزى صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مؤخر المسجد‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم صوته ضعيفًا، فلم يسمع تكبيره، فاعتقد أنه لم يتم التكبير، وإلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك‏.‏ فلو خلافها كان شاذًا لا يتلفت إليه، ومع هذا فإن كثيرًا من الفقهاء المتأخرين يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرًا، وأن علي بن أبي طالب وأبا هريرة وغيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير في الانتقالات‏.‏ ولازم هذا‏:‏ أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر في خفضها ولا رفعها‏.‏

وهذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال، ولو كان المراد التكبير سرًا لم يصح نفي ذلك ولا إثباته؛ فإن المأموم/ لا يعرف ذلك من إمامه، ولا يسمى ترك التكبير بالكلية تركًا؛ لأن الأئمة كانوا يكبرون عند الافتتاح دون الانتقالات، وليس كذلك السنة، بل الأحاديث المروية تبين أن رفع الإمام وخفضه كان في جميعها التكبير‏.‏ وقد قال إسحاق بن منصور‏:‏ قلت‏:‏ لأحمد بن حنبل‏:‏ ما الذي نقصوا من التكبير‏؟‏ قال‏:‏ إذا انحط إلى السجود من الركوع، وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة‏.‏

فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة لم يكونوا يتمون التكبير، بل نقصوا التكبير في الخفض من القيام ومن القعود وهو كذلك ـ واللّه أعلم ـ لأن الخفض يشاهد بالأبصار، فظنوا لذلك أن المأموم لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام، لأنه يرى ركوعه ويرى سجوده، بخلاف الرفع من الركوع والسجود، فإن المأموم لا يرى الإمام، فيحتاج أن يعلم رفعه بتكبيره‏.‏

ويدل على صحة ما قاله أحمد، من حديث ابن أبزى‏:‏ أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير، وكان لا يكبر إذا خفض‏.‏ هكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة، عن الحسن ابن عمران، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه‏.‏

وقد ظن أبو عمر ابن عبد البر ـ كما ظن غيره ـ أن هؤلاء/ السلف ما كانوا يكبرون في الخفض والرفع‏.‏ وجعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب؛ لأنهم لا يقرون الأمة على ترك واجب، حتى إنه قد روي عن ابن عمر‏:‏ أنه كان يكبر إذا صلى وحده في الفرض، وأما التطوع فلا‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ لا يحكى أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده إن شاء الله‏.‏

قال‏:‏ وأما رواية مالك عن نافع عن ابن عمر‏:‏ أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إمامًا وغير إمام‏.‏

قلت‏:‏ مـا روى مـالك لا ريب فيه‏.‏ والذي ذكره أحمد لا يخالف ذلك، ولكن غلط ابن عبد البر فيما فهم من كلام أحمد‏.‏ فإن كلامه إنما كان في التكبير دبر الصلاة أيام العيد الأكبر، لم يكن التكبير في الصلاة، ولهذا فرق أحمد بين الفرض والنفل، فقال‏:‏ أحب إلى أن يكبر في الفرض دون النفل‏.‏ ولم يكن أحمد ولا غيره يفرقون في تكبير الصلاة بين الفرض والنفل، بل ظاهر مذهبه‏:‏ أن تكبير الصلاة واجب في النفل، كما أنه واجب في الفرض‏.‏ وإن قيل‏:‏ هو سنة في الفرض قيل‏:‏ هو سنة في النفل‏.‏ فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره‏.‏

وأما الذي ذكره عن ابن عمر في تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردًا،/ فهو مشهور عنه‏.‏

وهي مسألة نزاع بين العلماء مشهورة‏.‏ وقد قال ابن عبد البر، لما ذكر حديث أبي سلمة‏:‏ إن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ كان يصلي لهم، فيكبر كلما خفض ورفع، فلما انصرف، قال‏:‏ والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال ابن عبد البر‏:‏ إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك، ويدل عليه ما رواه ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال‏:‏ ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن، وتركهن الناس‏:‏ كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا، وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله، وكان يكبر كلما رفع وخفض‏.‏ قلت‏:‏ هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة والفقهاء ممن لا يرفع إلى دين ولا يوجب التكبير، ومن لا يستحب الاستفتاح والاستعاذة، ومن لا يجهر من الأئمة بتكبير الانتقال‏.‏

قال‏:‏ وقد قال قوم من أهل العلم‏:‏ إن التكبير إنما هو إيذان بحركات الإمام وشعار للصلاة، وليس بسنة إلا في الجماعة، أما من صلى وحده فلا بأس عليه ألا يكبر؛ ولهذا ذكر مالك هذا الحديث وحديث ابن شهاب عن على بن حسين قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله عز وجل‏.‏ وحديث ابن عمر وجابر ـ رضي الله عنهم ـ‏:‏/ أنهما كانا يكبران كلما خفضًا ورفعًا في الصلاة‏.‏ فكان جابر يعلمهم ذلك‏.‏ قال‏:‏ فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكره مالك، فكما ذكره‏.‏ وأما ما ذكره ابن عبد البر من الخلاف، فلم أجده ذكر لذلك أصلاً، إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين‏:‏ أن التكبير مشروع في الصلوات، وإنما ذكر ذلك مالك وغيره ـ والله أعلم ـ لأجل ما كره من فعل الأئمة الذين كانوا لا يتمون التكبير‏.‏ وقد قال ابن عبد البر‏:‏ روي ابن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله الفهري، أن عبد الله بن عمر كان يقول‏:‏ لكل شيء زينة، وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي فيها‏.‏ وإذا كان ابن عمر يقول ذلك، فكيف يظن به أنه لا يكبر إذا صلى وحده‏؟‏ هذا لا يظنه عاقل بابن عمر‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ وقد روي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم‏:‏ أنهم كانوا لا يتمون التكبير‏.‏ وذكر ذلك ـ أيضًا ـ عن القاسم وسالم وسعيد بن جبير‏.‏ وروي عن أبي سلمة‏:‏ عن أبي هريرة‏:‏ أنه كان يكبر هذا التكبير‏.‏ ويقول‏:‏ إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ وهذا يدل على أن التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه، وفي ترك الناس/ له من غير نكير من واحد منهم، ما يدل على أن الأمر محمول عندهم على الإباحة‏.‏

قلت‏:‏ لا يمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به، فأما ترك الإمام التكبير سرًا فلا يجوز أن يدعي تركه، إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا لم يقله أحد من الأئمة، ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون في كل خفض ورفع، بل قالوا‏:‏ كانوا لا يتمونه‏.‏ ومعنى ‏[‏لا يتمونه‏]‏‏:‏ لا ينقصونه، ونقصه‏:‏ عدم فعله في حال الخفض كما تقدم من كلامه‏.‏ وهو نقص بترك رفع الصوت به، أو نقص له بترك ذلك في بعض المواضع‏.‏

وقد روى ابن عبد البر عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ صلىت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ فكلهم كان يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض‏.‏ قال‏:‏ وهذا معارض لما روي عن عمر‏:‏ أنه كان لا يتم التكبير‏.‏ وروي عن سعيد ابن عبد العزيز عن الزهري قال‏:‏ قلت‏:‏ لعمر بن عبد العزيز‏:‏ ما منعك أن تتم التكبير ـ وهذا عاملك عبد العزيز يتمه‏؟‏ فقال‏:‏ تلك صلاة الأول، وأبى أن يقبل مني‏.‏

قلت‏:‏ وإنما خفي على عمر بن عبد العزيز وعلى هؤلاء الجهر بالتكبير، كما خفي ذلك على طوائف من أهل زماننا، وقبله ما ذكره ابن/ أبي شيبة، أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم‏.‏ قال‏:‏ أول من نقص التكبير زياد‏.‏

قلت‏:‏ زياد كان أميرًا في زمن عمر، فيمكن أن يكون ذلك صحيحًا‏.‏ ويكون زياد قد سن ذلك حين تركه غيره‏.‏ وروي عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ لقد ذكرنا على صلاة كنا نصلىها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إما نسيناها، وإما تركناها عمدًا، وكان يكبر كلما رفع وكلما وضع وكلما سجد‏.‏

ومعلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد، وهم أئمة، ولم يبلغهم خـلاف ذلك عـن رسـول الله صلى الله عليه وسلم، رأوا من شاهدوهم من أهل العلم والدين لا يعرفون غير ذلك، فظنـوا أن ذلك هو من أصل السنة‏.‏ وحصل بذلك نقصان في وقت الصلاة وفعلها‏.‏ فاعتقدوا أن تأخـير الصلاة أفضل مـن تقديمها؛ كما كان الأئمة يفعلون ذلك‏.‏ وكذلك عـدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان ابن مسعود يتأول في بعض الأمراء الذين كانوا على عهده‏:‏ أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏59‏]‏ فكان يقول‏:‏ كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، إذا ترك فيها /شيء، قيل‏:‏ تركت السنة‏.‏ فقيل‏:‏ متي ذلك يا أبا عبد الرحمن‏؟‏ فقال‏:‏ ذلك إذا ذهب علماؤكم، وقلت فقهاؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين‏.‏ وكان عبد الله بن مسعود يقول أيضًا‏:‏ أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال‏:‏ أمور تكون من كبرائكم، فأيما رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول، فالسمت الأول‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد بن عمه ـ وعمر هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك ـ صلى خلفه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه? ـ فقال ما رواه أبو داود والنسائي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتي ـ يعني عمر بن عبد العزيز‏.‏ قال‏:‏ فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات‏.‏ وهذا كان في المدينة، مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية الأمصار‏.‏ فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك، والمدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا، ولكن كانوا قد غيروا ـ أيضًا ـ بعض السنة‏.‏ ومن اعتقد أن هذا كان في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط، فإن أنس بن مالك ـ رضي/ الله عنه ـ لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز، بل مات قبل ذلك بسنتين‏.‏

وهذا يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات‏:‏ سبحان ربي العظيم ـ وذلك أدناه ـ وإذا سجد فليقل‏:‏ سبحان ربي الأعلى ثلاثًا ـ وذلك أدناه‏)‏‏.‏ قال أبو داود‏:‏ هذا مرسل، عون لم يدرك عبد الله بن مسعود‏.‏ وكذلك قال البخاري في تاريخه‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ ليس إسناده بمتصل، عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود، عون هو من علماء الكوفة المشهورين، وهو من أهل بيت عبد الله‏.‏ وقيل‏:‏ إنما تلقاه من علماء أهل بيته‏.‏ فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد، حتى صاروا يقولون في الثلاث‏:‏ إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع‏.‏ وذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا‏.‏

فقول من يقول من الفقهاء‏:‏ إن السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعي وأحمـد ـ رضي الله عنهما ـ وغـيرهم، هـو من جنس قول من يقول‏:‏ من السنة ألا يطيل الاعتدال بعد الركوع، أو أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، أو نحو ذلك‏.‏ فإن /الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلاً، بل الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، تبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك، كما تقدم دلالة الأحاديث عليه‏.‏ ولكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء‏)‏، ولم يعرفوا مقدار التطويل، ولا علموا التطويل الذي نهى عنه لما قال لمعاذ‏:‏ ‏(‏أفَتَّان أنت يا معاذ‏؟‏‏)‏، فجعلوا هذا برأيهم قدرًا للمستحب، ومن المعلوم أن مقدار الصلاة ـ واجبها ومستحبها ـ لا يرجع فيه إلى غير السنة، فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد‏.‏ إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات، وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم، فيجب البحث عما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي، وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس‏.‏

ومما يبين هذا‏:‏ أن التخفيف أمر نسبي إضافي، ليس له حد في اللغة ولا في العرف؛ إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ويستخف / هؤلاء ما يستطيله هؤلاء، فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ومقادير العبادات، ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية‏.‏

فعلم أن الواجب على المسلم‏:‏ أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة، وبهذا يتبين أن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل ـ أيضًا‏.‏ في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال‏:‏ إن طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة‏)‏‏.‏ وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما؛ فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة، والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء‏)‏‏.‏

فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة، بخلاف الإمام؛ لأجل مراعاة المأمومين‏.‏ فإن خلفه السقيم والكبير وذا الحاجة؛ ولهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأخفف لما أعلم من وَجْد أمه‏)‏‏.‏ وبذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم فيما تقدم من حديث ابن مسعود‏.‏

/وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة‏.‏ وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء‏)‏‏.‏ وفي رواية ‏(‏فإن فيهم السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة‏)‏‏.‏

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصرها أحيانًا عما كان يفعل غالبًا، كما روي مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ وروي أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة‏.‏ وكان يطول أحيانًا، حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ‏:‏ أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ‏:‏ ‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا‏}‏ فقالت‏:‏ يا بني، لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب‏.‏ وفي الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب‏.‏ وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال‏:‏ قال لي زيد بن ثابت‏:‏ مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولي الطوليين‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ ما طولي الطوليين‏؟‏ قال‏:‏ الأعراف‏.‏

/فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث‏.‏ وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور، وتارة بالمرسلات، مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر من القراءة في الفجر‏.‏ فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها‏؟‏

ومن هذا الباب‏:‏ ما روي وَكِيع عن منصور عن إبراهيم النَّخَعي قال‏:‏ كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه‏.‏ قال أبو محمد ابن حزم‏:‏ العيب على من عاب عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعول على من لا حجة فيه‏.‏

قلت‏:‏ قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح، وموافقته لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث، لم يكونوا من الصحابة، ولا عرف أنهم من أعيان التابعين‏.‏ وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود، فابن ابن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه، بل الإمام الراتب كان غيره، وابن ابن مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين‏.‏

فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة، إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة /التي اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية، ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء‏.‏

يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة وتوفي قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله‏.‏ فإن علقمة توفي سنة إحدي ـ أو اثنتين ـ وستين في أوائل إمارة يزيد، وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك‏.‏ وكذلك مسروق، قيل‏:‏ إنه توفي قبل السبعين أيضًا‏.‏ وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه‏.‏

فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد اللهبن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك، مع أن من الناس إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي‏.‏ وقد عرفت أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك، وهم رأوا ذلك، وهم أخذوا العلم عن عبد الله ونحوه‏.‏ فقد تبين أن الأمر ليس كذلك‏.‏